يُعد مبدأ التقادم أحد الركائز الأساسية في النظام القانوني الجنائي، إذ يُقصد به مرور فترة زمنية محددة بعد وقوع الجريمة، بحيث يفقد الادعاء العام بعدها الحق في مقاضاة الجاني. ويهدف هذا المبدأ إلى تحقيق توازن دقيق بين حق المجتمع في ملاحقة المذنبين وحق الأفراد في الاستقرار وعدم التعرض للملاحقة بعد مرور زمن طويل. كما يعكس التقادم ضرورة حسم القضايا بسرعة لضمان فعالية العدالة، وتخفيف العبء عن النظام القضائي من خلال الحد من تراكم القضايا القديمة. وإلى جانب ذلك، يسهم مبدأ التقادم في تعزيز الثقة بالقانون من خلال وضوح الأطر الزمنية التي تحدد المسؤولية الجنائية، وتشجع الأفراد على الالتزام بالإجراءات القانونية دون تسويف أو تأجيل.
تختلف فترات التقادم باختلاف نوع الجريمة وجسامتها، إذ تحدد التشريعات لكل فئة من الجرائم مدة زمنية محددة تبدأ من تاريخ ارتكابها. ففي الجرائم البسيطة مثل المخالفات المرورية أو التعديات البسيطة على الممتلكات تكون فترات التقادم قصيرة نسبيًا، بينما في الجرائم الأخطر مثل الاحتيال المالي أو الاعتداءات الجسدية العنيفة تكون المدة أطول، بما يمنح السلطات الوقت الكافي لإجراء التحقيقات اللازمة. ويأخذ القانون في اعتباره عند تحديد هذه المدد طبيعة الجريمة ومدى الضرر الناتج عنها وتعقيدها، إضافة إلى ما إذا كانت تنطوي على سوء نية أو خيانة للأمانة، وذلك لضمان تحقيق العدالة لكل من الضحايا والمتهمين على حد سواء.
ومع ذلك، هناك فئات من الجرائم لا يسري عليها مبدأ التقادم إطلاقًا نظرًا لجسامة آثارها وخطورتها الأخلاقية والاجتماعية. ومن أبرز هذه الجرائم في العديد من الأنظمة القانونية جرائم القتل العمد والجرائم الإرهابية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إذ يرى المشرّع أن مرور الزمن لا يمكن أن يخفف من وطأة هذه الأفعال ولا من الأذى الذي تُلحقه بالمجتمع والضحايا. ويأتي هذا الاستثناء تجسيدًا لحرص القانون على حماية المجتمع وضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم الكبرى من العقاب مهما طال الزمن، فالمسؤولية عن الجرائم الجسيمة لا تزول بمرور الوقت لأنها تمس أمن المجتمع وقيم العدالة.
يرتكز استثناء بعض الجرائم من التقادم على أسس قانونية وأخلاقية وإنسانية، فمرور الزمن لا يقلل من جسامة الجريمة ولا من حق الضحايا في نيل العدالة، كما يضمن هذا الاستثناء استمرار التزام السلطات بمتابعة التحقيقات دون تهاون، ويحول دون استفادة المجرمين من عامل الوقت للإفلات من العقوبة، مما يعزز مبدأ المساءلة وسيادة القانون.
ويقع على عاتق السلطة القضائية مسؤولية تحديد ما إذا كانت الجريمة خاضعة للتقادم من عدمه، والتأكد من انقضاء المدة القانونية قبل مباشرة أي إجراء. وفي الجرائم غير القابلة للتقادم، يبقى الحق في الملاحقة قائمًا، ويجوز للنيابة العامة تحريك الدعوى الجزائية واتخاذ الإجراءات اللازمة حتى بعد مرور سنوات طويلة على ارتكاب الجريمة.
وفي الختام، من المهم أن يدرك المواطنون أن بعض الجرائم لا تسقط بالتقادم وأن الحق في المطالبة بالعدالة يظل قائمًا ما دامت الجريمة جسيمة. لذا يُنصح دائمًا بالإبلاغ الفوري عن الجرائم والحفاظ على الأدلة والاستعانة بمحامٍ مختص لضمان سلامة الإجراءات وحماية الحقوق. إن الوعي بالقانون والالتزام به يشكل الركيزة الأساسية لعدالة المجتمع وأمن أفراده، ويضمن أن تبقى العدالة حاضرة مهما طال الزمن.
لا توجد تعليقات حتى الآن، رأيك يهمنا!
كن أول من يشارك أفكاره ويبدأ المحادثة. نحن متحمسون لمعرفة رأيك!